قد فشلت الكثير من الخطابات الثقافية والمعرفية والأيديولوجية، وهذا يستدعي من الباحث أن ينظر في أسباب هذا الفشل، وقد يرجع هذا الفشل إلى أسباب في الخطاب نفسه حين لا يكون ملامساً لضمير الأمة وحاجاتها ومشكلاتها، ويركز على مصالح فئة خاصة أو مجموعة بعينها، وحين لا يكون مؤسساً على عقيدة الأمة أو يأتي مخالفاً أو مضاداًَ لها، كما يرجع الفشل إلى سبب آخر هام، وهو أن أي خطاب، لكي ينجح لا بدّ أن تسانده قوة السلطة والسلطان، وقديماً قيل: "وما نفع حق لم تؤيده قوة"، فالهوة أو الفجوة الواسعة بين الخطاب والسلطة يفشل الخطاب، والتوافق والتعاون والدعم من السلطة لخطاب ما يكون سبباً في نجاحه، كما لا يفوتني هنا التنويه إلى العوامل الخارجية التي لها القدرة في هذا العصر، بسبب كثرة أدواتها وتنوعها على إفشال أي خطاب ليس له جذور ولا تدعمه السلطة.


وعليه…، فإن التصوف وحده والخطاب الصوفي وحده لا يمكن أن يحل محل الخطابات الأخرى، ـ وهذا مهم أن يلتفت إليه ـ أن الخطاب الصوفي المبني على فهم سليم لحقيقة التصوف، يساهم مساهمة كبيرة في أمرين: الأول، إنقاذ الموقف العام للأمة، بما ينطوي عليه من تربية أخلاقية عالية وتزكية للنفوس فيحل بذلك الأزمة الأخلاقية في المجتمع، وهذا أمر مهم، فضلاً عن روح الإيثار التي يتربى عليها الصوفية نحو الآخرين مما يسهل تنظيم الجهود لإزالة الضرر القائم، والأمر الثاني أن ما نشهده اليوم من سلوك متطرف ومغالاة في تكفير الناس واستباحة لدمائهم، دون أدنى وجه حق من الدين أو العرف أو الخلق، هذه المواقف يستطيع الخطاب الصوفي أن يبدلها وأن يغيرها وأن يعالجها بحيث يعود بالناس إلى روح التسامح وإلى روح التقارب، ذلك أن من إيجابيات التصوف عبر تاريخه أنه كان سبباً في تقليل الخلافات والخصومات بين الفئات والفرق والأفراد، فغاية الصوفي تتجاوز ذلك كله، وتتجه إلى الله سبحانه وتعالى وتركز على التقرب منه.(...)

إن التصوف الإسلامي الحق هو تصوف يستند إلى عقيدة الإسلام، والسلوك فيه سلوك إسلامي، وإذا وجد سلوك لا أصل له في الإسلام وشريعته، فهو عند الصوفية الحقيقيين مرفوض، ونحن نركز على مصطلح "صوفية حقيقية"، لأن التصوف - كما قال أبو حامد الغزالي - "باب المدعي فيه كثير"، من هنا كان التصوف مضاداً للأفكار العلمانية التي لا أساس لها في الدين والشريعة أو تضاد الدين وتعارضه، نعم، إن التصوف يمكن أن ينجح في دحر أفكار العلمنة بسبب قوة ارتباطه بالدين وبالتوجه إلى الله، والتصوف مليء بالروحانيات التي مظهرها الصحيح العبادة بالمعنى العام والواسع وفيه إيمان بالغيبيات، على أن من سلبيات التصوف أن يعتقد الصوفي بغيبيات غير تلك التي جاءت في الوحي الصادق: الكتاب والسنة الصحيحة المؤكدة، وهذا ما نحذر منه: أن نخترع غيبيات لا أساس لها في الوحي الصادق، فالله وحده هو مصدر العلم بالغيبيات، ويبقى في النهاية أن التصوف يحدّ من المادية التي نجدها في العلمانية ويسعى لتحقيق التوازن بين المادي والروحي في حياة الناس. (...)

والصوفي الحقيقي هو الذي يتمتع بقدر كبير من الأخلاق السامية المتسمة بالاعتدال والتسامح مع الآخر، بل والتعاون معه من أجل الخير المشترك في ضوء روح الإسلام السمحة المتسمة بالاعتدال واحترام الآخر الذي لا يعتدي على المسلمين ولا يخرجهم من ديارهم، بل يطلب أن نبرّ هذا الآخر ونحسن إليه، وهو المعنى الوارد في قوله تعالى: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة:8 ). أما مع المسلمين فيما بينهم، فهم أخوة، رحماء بينهم، يتجاوزون عن الإساءات ويصفحون ولا تشغلهم الخلافات والنزاعات، فهم متوجهون في سلوكهم إلى الله، الأمر الذي يعني أن عدم تركيز النظر على الخلافات والمنازعات ومحاولة تجاوزها.(...)

 ومما لا شك فيه، فإن التصوف الإسلامي يجسد معاني في التعامل مع الآخر في الداخل وفي الخارج، وإذا كانت التجربة الصوفية صافية خالية من أية عناصر خارجة عن الإسلام، فإنها ستكون خير ممثل للإسلام المطبق في صورته السمحة الوسطية المعتدلة، وما أظن إلا أن الجميع يطمحون إلى أن يكون الإسلام على هذه الصورة، فها هم المسلمون يعانون من بعض الذين يمارسون التطرف والغلو باسم الإسلام، فنحن نتوقع لمستقبل الإسلام كل خير، وأن يمارس بالصورة التي تبرز خصائصه الإنسانية المعتدلة، والتجربة الصوفية والتصوف في مقدوره أن يساهم في هذا إلى درجة كبيرة.(...)

(وبناء على ذلك) يمكن أن يساهم التصوف الإسلامي في ترسيخ الهوية الثقافية للأمة، وأن يدعم قضية الإيمان والعمل الصالح، وأن يقلل من الخلافات بين فرق المسلمين وأحزابهم، وأن يساهم ـ بما فيه من زهد معتدل ـ إلى تحسين الوضع الاقتصادي بالتقليل من الاستهلاك والتركيز على الإنتاج النافع، وربما كان أكبر جانب إيجابي يساهم في عملية الإصلاح هو الجانب الأخلاقي والتربوي أو ما يمكن أن يسمى اليوم بالفساد وهو أمر خطير تشكو منه مجتمعاتنا، ذلك أن أحد وسائل الصوفية ومدار سلوكهم ومجاهداتهم هو ما يسمى في اصطلاح الصوفية التخلّي والتحلّي، أي التخلّي عن الرذائل والتحلّي بالفضائل، وما أظن أحداً يشك في أن إصلاح الأخلاق والفساد الأخلاقي هو من أهم جوانب الإصلاح في المجتمعات إن لم يكن أهمها.

(عن جريدة الغد بتصرف)