الحمد لله رب العالمين

 والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين

 

تأمـلات فـي معجزة الإسراء والمعراج

 

إخواننا في الله، ومحبونا من أجله، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

 

وبعد، فأحي الله إخواني قلب من جــدّد إيمانه بخالقه، وأحيى سنة رسوله، وأذاقه حلاوة الإيمان، فحمله ذلك على التقوى والاستقامة، فنال بذلك خير الدنيا والآخرة.

 

"وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا".

 

إن من حسنات التذكير بأيام الله الخالدات في تاريخ الإسلام والمسلمين أن نغتنمها فرصة لنضع العالم أجمع في الصورة الحقيقية للدين الإسلامي وعقيدته السمحة، وأهدافه النبيلة، تحقيقا للتعايش والتعارف بين مختلف الأمم في مشارق الأرض ومغاربها، هدفنا الأسمى، إبعاد سوء الفهم، والأفكار المغلوطة، والأحكام المسبقة، التي تسود الثقافة الغربية عن الإسلام، خاصة وأن هذه الثقافة تحمل بين طياتها صورا نمطية خاطئة عن الإسلام وشـعـائره السمحة، مع العلم أن الإسلام ليس بحاجة إلى من يدافع عنه، ولكنه بحاجة إلى كل القوى الحية في مختلف المجتمعات الإسلامية بالعالم أجمع، تتبني شرح جوهر الدين الإسلامي للعالمين، وإلى دعاة متمرسين يقظين، يتقنون اللغات الحية، يتحلون بأخلاق القرآن، وبالشمائل النبوية، يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن،  حفاظا على ذاكرتنا وهويتنا ومقدساتنا. فالإسلام، دين السلام، ودين العدل والمساواة، ودين حسن المعاملة، ودين الحوار والتعايش، ودين التسامح والإخاء، ودين المحبة وفعل الخيرات.

 

"وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا "

صدق الله العظيم.

 

إخواننا في الله، إن الأيام الفاضلة، والذكرى المجيدة، للمعجزة الربانية الكبرى، "الإسراء والمعراج" التي يعيشها المسلمون في العالم أجمع، في هذا الشهر الكريم، شهر رجب، أحد أشهر اللـه الأربعة الحُرم، لتذكرنا بأيام اللـه الخالدات في تاريخ الإسلام، وبأحد أمجاد الأمة الإســلامية العظيمة، في الـتاريخ التليد لرسالة خاتم الأنبياء والمرسلين،
 التي أعلنها رسولنا سيدنا محمد صلى اللـه عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى،
أن خالق الكون، وصانع المعجزات، ذو الجلال والإكرام
، قد أسرى وعـرج بعبده، رسوله سيدنا محمـد صلى الله عـليه وسلم ليلا بجسده وروحه، يقظة لا مناما، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم إلى سدرة المنتهى، في السماوات العلا، في رحلته التاريخية، التي أذهلت العقول، فصدقها المسلمون قاطبة، وعلى رأسهم صاحب مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأنكرتها قريش المشركة عن بكرة أبيها. بل دفعها غرورها إلى تكذيب الرسول الأعظم، والنبي الأفخم، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومجد وعظم، لأن الحدث كان عظيما، وأكبر من قدرتها على استيعابه، فاستغربت قريش حدث الإســراء، فما بالك بحدث المعراج، وهي تعلم علم اليقين، أنه الصادق الأمين.   

 

بسم الله الرحمن الرحيم

سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى

الذي باركنا حوله  لنريه من آياتنا، إنه هو السميع البصير"

 

إخواننا في الله، لقد مَنّ اللـه جل شأنه على خاتم أنبيائه ورسله في رحلته المعجزة هذه، أن أرى اللـه عز وجل رسوله الكريم، ببالغ قدرته، وعظيم حكمته ومبلغ علمه، بعض آياته في مختلف مراحل رحلته إلى السماوات العلا، "لقد رآى من آيات ربه الكبرى".

لقد رأى عليه السلام عددا من العُصاة وهم يعذبون، كما رآى أهل الصلاح والتقوى في رضوان الله يمرحون. ورآى كذلك أقواما تُرضخ رؤوسهم بالصخر، كُلَّما رضخت عادت، لايفتر عنهم العذاب، فقال جبريل لرسول الله: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة. ثم رآى أقواما على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع، يسرحون كما تسرح الأنعام، يأكلون الضريع والزقوم، فقال سيدنا جبريل لمولانا رسول الله: هؤلاء الذين لايؤدون الزكاة.
ومَرَّ مولانا رسول الله على مائدة عليها لحم طيب ليس عليها أحد، وأخرى عليها لحم نتن، عليها ناس يأكلون، فقال سيدنا جبريل: هؤلاء الذين يتركون الحلال، ويأكلون الحرام.
ومَرَّ عليه السلام على قوم يلتقمون جمرا فيخرج من أسافلهم فقال سيدنا جبريل: هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما. ورآى صلى الله عليه وسلم رجلا منغمسا في النور، ممسكا بساق العرش، فقال سيدنا جبريل عليه السلام: هذا رجل كان لسانه رطبا بذكر الله.

بسم الله الرحمن الرحيم

 

"والنجم إذا هوى، ما ضل صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى ذو مرة، فاستوى وهو بالأفق الأعلى، ثم دنى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى."

 

أيها الأحبة الأبــرار، فإن كان الإسراء والمعراج آيـة أرضية، من بيت الله الحرام إلى المسجد الأقصى، ومن الأقصى إلى السموات العلا، إلى سدرة المنتهى، فإن الغاية المتوخاة منها، هي أن يعلم الإنسان علم اليقين، أن الله تبارك وتعالى قد خرق بقدرته لرسوله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام قوانين الأرض، وأنه جل وعَلا قادرعلى أن يخرق له قوانين السماء، فالزمان والمكان مخلوقان من مخلوقات الله، ومعجزة الإسراء والمعراج تمّت بقدرته وحكمته عز وجل. وفوق كل ذي علم عليم.         

 

 

وقد أجمع العلماء والمؤرخون، على أن الإسراء والمعراج يعتبر أول فتح إسلامي لبيت المقدس. وإن هذه المعجزة الباهرة، لتعد أكبر حجة على صدق الرسالة الإسلامية الخاتمة، وإن إمامة المصطفى سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم بالأنبياء جميعا عليهم الصلاة والسلام، تفرض قيادة الإسلام للمسيرة الإنسانية، وأنها تمت في ليلة السادس والعشرين من شهر رجب، قبل الهجرة النبوية في سنة 621م على متن البُراق، الوسيلة الإلهية، التي هيأها الله تعالى لرسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لإسرائه ومعراجه، صحبة سيدنا جبريل عليه السلام، من بيت الله الحرام إلى المسجد الأقصى، ومنه إلى السموات العلا. إن هذه المركبة العظيمة المسماة "بالبراق" يستحيل تقدير سرعتها حتى يومنا هذا.

 

والسّر في ذلك، في اعتقادنا للتأكيد على أن المسجد الأقصى هو بيت الله، وبيت إسلامي، ملك للمسلمين قاطبة في مشارق الأرض ومغاربها، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأمانة في عنق المسلمين في العالم أجمع، عليهم أ ن يحافظوا على حرمته وقدسيته، وتطهيره من كل ما يغضب الله ورسوله. فهو قبلة المسلمين الأولى، ومهبط الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.

 

فمنذ الأزل، ربط القدس الشريف والمسجد الأقصى بمشاعر المسلمين وشعائرهم ربطا عمليا من خلال ركن هام من أركان الإسلام، وهو الصلاة، وأن ربط القدس الشريف والمسجد الأقصى بالمسجد الحرام بمكة المكرمة، لأكبر دليل على أن حرمة المسجد الأقصى كحرمة المسجد الحرام، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد : مسجدي هـذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"

 

ومن نعم الله على هذه الأمّة، فريضة الصلاة، الركن الثاني من أركان الإسلام التي فرضها الله في أشرف مكان، ليلة المعراج، عند سدرة المنتهى تعظيما لقدرها وإعلاء لشأنها، لتكون معراج المؤمنين والمؤمنات. فالصلاة صلة بين العبد وربّه، وعامل أساسي في ترسيخ وحدة المسلمين وصحوتهم وتضامنهم. فمن حافظ على الصلوات وواظب على الجُمع وحرص على الصلاة مع الجماعة، وأداها بخشوع وخضوع في أوقاتها، استنار قلبه بالإيمان، وحسنت مع الله ومع الناس سيرته وسريرته واستقامت معاملاته، فهي عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين كله، ومن أضاعها، فهو لما سواها أضيع، يمحو الله بها ذنوب عباده المؤمنين، ويطهرهم بها من الخطايا.

 

اللهم ارحم أمة سيدنا محمد، اللهم انصر أمة سيدنا محمد، اللهم اجبر كسر أمة سيدنا محمد ،اللهم فرج كروبنا وكروب المسلمين أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها، واجعل بيننا وبين كل مكروه حجابا مستورا، ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، وبالنظر إلى وجهك الكريم، بمحض جودك وإحسانك ورحمتك، يا أرحم الرحمين يا رب العالمين.

مولانا أمير المؤمنين، جلالة الملك سيدي محمد السادس، اللهم انصره نصرا عزيزا تعز به الدين، وتعلو به راية الإسلام والمسلمين. اللهم أنجح مساعيه في سياسة أمور البلاد، ومعالجة قضايا العباد، وكن له يا رب عونا وظهيرا، وسندا ونصيرا. إنك على كل شيء قدير. اللهم أدم على جلالته، نعمة الصحة والعافية، واحفظه بما حفظت به السبع المثاني والقرآن العظيم، واجعل يا مولانا روح القدس معه في حله وترحاله، وفي جميع حركاته وسكناته، قرير العين بصاحب السمو الملكي ولي العهد المحبوب، الأمير الجليل مولاي الحسن، أنبته الله في حضن جلالته الرضي نباتا حسنا، وشد أزره بشقيقه السعيد الأمير الجليل مولاي رشيد، وبالشعب المغربي قاطبة، ملتفا حول عرشه ،مستظلا بظله، محتميا بحماه، متبعا لخطاه.

ربنا وتقبل دعائي

 

ســلا، في: 26 رجب 1437، موافق 04 مايه 2016

 

الشيخ عبد اللطيف الشريف الكتاني

شيخ الطريقة الكتانية