أما الإسلام الذي سيقدمه المركز الإسلامي إلى مدينة روما على الخصوص، وإلى ايطاليا على وجه العموم، فهو الإسلام الصحيح الداعي إلى السلام وإلى المحبة والوئام والأخوة والمعاملة الحسنة والتعاون والساعي إلى ترشيد الحوار بين الديانات السماوية وإبراز العقيدة الإسلامية الصحيحة الهادفة إلى الحوار والتعايش مع هذه الأديان انطلاقا من قوله تعالى في سورة النحل، الآية 125 : "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ..." وقوله تعالى في سورة آل عمران، آية 159 : "... ولو كنت فظا غليظ القلب لانفظوا من حولك ..."

ذلك أننا نعتقد أن التعريف بحقيقة الإسلام وسماحته وعدله وشموله لجميع العبادات والمعاملات والأخلاق الحميدة، وتمسك المسلمين بهذه المبادئ الأساسية، وإعطاء المثل الأعلى بأنفسهم بها ستؤدي إلى صلاح البشرية وإلى السلام بجميع أشكاله، بما فيه السلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمن الغذائي.

وطريقنا في الدعوة إلى الإسلام الصحيح هو الحجة والإقناع بالعلم وبالحكمة وبالقدوة الحسنة وبالبعد عن الخلافات السياسية والعقائدية والمذهبية.

إذ لا يخفى أن الحوار بصفة عامة هو موجه من أتباع الديانات السماوية كلها والمؤمنون جميعا إلى الناس كافة، انطلاقا من قول الله تعالى في سورة البقرة، آية 136 " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون".

فما أسعد الإنسان إن تتاح له فرصة التحاور والتناصح في جو من الثقة يسوده روح التسامح إلى العقل والقيم الإنسانية الفكرية والروحية الخالدة.

إن الإسلام الذي سيقدمه المركز الإسلامي الثقافي إلى مدينة روما هو الإسلام الذي جاء به رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ومن مبادئه الأساسية تأكيد قيمة الإنسان، ذكر أو أنثى، حرمته وكرامته ومحافظته على حقوقه الأساسية وعلى علو منزلته عند خالقه انطلاقا من قول الله تعالى في سورة الإسراء، آية رقم 70: "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا"، ومن قوله تعالى في سورة الحجرات، آية رقم 13: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ..."

ومما يشجعنا على نجاحنا في مهمتنا الصعبة، هو العلاقات الطيبة المميزة القائمة بين المركز الإسلامي الثقافي لايطاليا وبين مختلف المراكز الثقافية والمعاهد المنتمية للديانات السماوية، وفي طليعتها: المجلس البابوي للحوار بين الأديان، وجمعية سانت أجيديو وجمعية الصداقة الايطالية العربية، والمعهد البابوي للدراسات الإسلامية والعربية، ومركز العلاقات الايطالية العربية، وبالذات الجمعية الثقافية النشيطة بالمنطقة في المقاطعة الثانية لمدينة روما، ومركز الدراسات الشرقية، وغير ذلك من المراكز والمعاهد الثقافية والعلمية. إذ أننا جادون في المساهمة مساهمة فعالة في ترشيد الحوار الهادف البناء بالرغم من أن الطريق طويل وشاق، على أساس من الإحترام المتبادل للثوابت والمقدسات طبقا للشرائع السماوية من دون تطرف ولا تعصب، لأن العقيدة الإسلامية لا مجال فيها للغلو ولا للتطرف. يقول الله تعالى في سورة الممتحنة، آية 8: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين".

ومما هو معلوم فإنه من بين المرافق الأساسية للمركز قاعة للمحاضرات والندوات ستكون مفتوحة في وجه ذوي النيات الحسنة والسرائر الطيبة ليلقي كل منا بدلوه بين الدلاء عن طريق إقامة ندوات ولقاءات نتعرف من خلالها على معتقدات وتقاليد وأهداف بعضنا البعض، يتردد عليها وعلى المركز الإسلامي كل ساع لمعرفة الحقائق المجردة من أصولها ومنابيعها الصحيحة لبث روح الثقة والتفاهم بين أبناء البشرية.

إننا نعتقد إن كلامنا بحاجة إلى أن يتعرف على الآخر، فالمسلم عليه أن يتعرف على حقيقة الديانة المسيحية ويخرج من المفاهيم السطحية إلى المفاهيم الصحيحة، والمسيحي، وغيره، وعليه أن يعرف كذلك الدين الإسلامي على حقيقته من منابعه الأصلية، ويخرج من المفاهيم السطحية إلى المفاهيم الصحيحة.

فإذا عرفنا بعضنا البعض سهل التلاق، وسهل علينا الحوار وسهل علينا التعايش، وسهل علينا التعاون، وسهل علينا التعامل بثقة لأن الدين المعاملات.

إن أبواب المركز الإسلامي والثقافي مفتوحة في وجه جميع أصحاب النيات الحسنة، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وعلى استعداد دائم للمشاركة في جميع اللقاءات والندوات الهادفة، التي من شأنها أن تقرب بعضنا إلى بعض وتساعدنا على التعايش والتعارف في جو يسوده الثقة والأخوة والمحبة.

ومما يثلج صدورنا أن بعض جوارنا وبعض سكان حينا الذين تخوفوا في البداية من غرس مسجد ومركز إسلامي في حيهم، بسبب عدم معرفتهم لحقيقة الإسلام الناصعة، قد زالت عن أعينهم تلك الغشاوة وكل التباس بعد من علموا على اليقين أن الغاية من بناء المركز والمسجد هي تقوية الروابط وإنماء العلاقات بين أتباع الدين الإسلامي وأتباع الدين المسيحي وايجاد الوسائل المناسبة لمساعدة المسلمين في ايطاليا، ماديا وروحيا، والعمل للتعريف بحقيقة الإسلام الناصعة البياض الداعي إلى السلام في ظل حوار هادف يسعى للتعايش بين مختلف الديانات، ساعيا من وراء ذلك تنظيم أحوال الجالية الإسلامية وتوحيد صفوفها ليجعل منها نموذجا حيا للمؤمن الصادق الذي يكد ويجتهد ويسعى ليعطي الدليل الفعلي على مساهمته في وطنه الثاني بإخلاص في تنميته الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والحضارية مع الحفاظ على هويته وتقاليده وعاداته المتواثرة من تعاليم الإسلام السمحة.

لقد تم، ولله الحمد، تجاوز سوء التفاهم الذي كان حاصلا بين جيراننا واندمجنا معهم واندمجوا معنا، كما اندمج البناء مع المنطقة وأعطاها رونقا وجمالا تتيه به على بقية المناطق الأخرى في العاصمة التي تفتخر بمعاليمها العمرانية والتاريخية.

ولا أدل على ذلك، تلك الدعوة الميمونة التي تلقيناها من صاحبة السعادة الدكتورة لوتشيانا بوسي، رئيسة المقاطعة الثانية لمنطقة باريولي، وسعادة المستشار الدكتور ميكال داو، ورئيس اللجنة الثقافية في تلك المقاطعة، والتي لبيناها بكل ترحاب وسرور، لإلقاء محاضرة للتعريف بالإسلام وبأهداف المركز الإسلامي الثقافي وتاريخ إنشائه وأنشطته التي يقوم بها، في يوم الإثنين 15 ماي 1995م، حضرها وجوه خيرة من أعيان عيون سكان هذه المنطقة من مثقفين وعلماء وأدباء وصحفيين وطلبة، ممن يمثلون مختلف شرائح المجتمع الايطالي بهذه المنطقة المليئة بالحيوية والنشاط، التي تمثل النخبة المثقفة والمحافظة على تقاليد المجتمع الايطالي الأصيل وعلى رأسهم أعضاء من مجلس الشيوخ ومجلس النواب وأساتذة الجامعات.

ومما زاد في غبطتنا أن قاعة المحاضرات بالمنطقة الثانية كانت غاصة بالحاضرين حتى أن بعضا منهم تابع المحاضرة والأسئلة القيمة التي تلتها، والتي دامت مدة ساعتين، وقوفا.

كما تلقينا في الختام التهاني والتشجيع من جميع الحضور متمنين علينا أن يتجدد هذا اللقاء في القريب، فاستجبنا لرغبتهم الكريمة ودعوناهم بأن يكون لقاؤنا المقبل في قاعة المحاضرات في المركز الإسلامي الثقافي عقب افتتاحه رسميا في النصف الأخير من شهر يونيو 1995م.

أما الخواطر والأسئلة التي تدور في أذهان عدد كبير لا يستهان به من المثقفين والصحفيين في كثير من دول العالم حول معنى ومفاهيم الأصولية في الإسلام لجديرة بالدرس والتمحيص، وعليه فيمكننا أن نؤكد بكل صراحة، أنه من المعلوم أن الموقف الرسمي للإسلام في سائر القضايا والموضوعات الحساسة مرجعيته الأولى والأخيرة هي: الوحي السماوي والبيان النبوي المنصوص عليهما في القرآن، وفي صحيح الأحاديث النبوية من السنة المطهرة الواردة على لسان رسول الإسلام سيدنا محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

وتبقى المواقف الفكرية للفقهاء والعلماء والمجتهدين اتجاهات حضارية وعلمية صالحة، قابلة للأخذ والعطاء والمناقشة، وفق الحاجة الإنسانية، والمصلحة الظرفية، والحاسة الإسلامية التي ترشح قبول هذا التأويل أورده، تبعا للظروف والأحوال وطبيعة التطورات التي تعيشها المجتمعات البشرية شرقا وغربا، شريطة أن لا تتضارب مع نص صريح في القرآن أو في السنة النبوية.

ومن هذا المنطق فإن الأصولية الحقيقة في الإسلام تعني التمسك بالقرآن الكريم، والسنة المطهرة التي تبين حقيقة الدين الإسلامي الداعي إلى السلام القائم على السماحة والعدل والتعارف والحوار والتعايش بين مختلف الديانات، كما أسلفنا.

وليس الأصولية في الإسلام مثل ما تترجمها بعض وسائل الإعلام في العالم من كونها تيارات شاذة مخالفة للمبادئ العقلية والإنسانية والتطور والتقدم العلمي والحضاري.

وبهذا المفهوم الخاطئ للأصولية تسيء بعض وسائل الإعلام إلى الإسلام الداعي إلى السلام عن غير قصد. ذلك أن أصول الدين هي أسسه الصحيحة الخالية من الشوائب.

والأصولية بمفهومها الصحيح، تدعو البشرية إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، وبالكتب المقدسة السابقة عملا بقول الله تعالى في سورة البقرة الآية 285 " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله ..."

والخلاصة، فما أحوج البشرية الآن إلى حوار يأخذ من القديم طهارته وقدسيته ونبله، ويولي وجهه إلى الحاضر مستشرفا فيه آفاق المستقبل على أساس من اقتران مفهوم الحوار بمفهوم التسامح، اقتران أصل بفرع، واتصال به اتصال سبب بنتيجة.

على أن يكون هذا الحوار خطابا عاما من المؤمنين من أهل الأديان السماوية إلى الناس كافة ممن غفلوا عن "الوحي الإلهي" وقيمه وأخلاقياته، وأن يكون بالحكمة والإقناع، عن طريق الموعظة الحسنة، والرفق بالبشرية، مراعيا الظروف المعاشية والاجتماعية والسياسية التي يشهدها عالمنا المعاصر.

في الحقيقة، إن معظم البلاد الإسلامية قد عانت الكثير من جور الحكم الاستعماري الذي عرفته هذه البلاد سنين طويلة، وقد حاول الحكم الاستعماري بكل ما أوتي من حول وطول، تجريد هذه الشعوب من هويتها الإسلامية، وغرس تقاليده ومفاهيمه الثقافية والاجتماعية التي لا تتلاءم وبيئته وعقائده وتقاليده، ودينه الإسلامي الحنيف، مما دفع بعض الفئات إلى التطرف.

لقد حاول الاستعمار خلال حكمه لعدد من الأقطار الإسلامية والعربية القضاء على لغة القرآن وإحلال محلها لغته وثقافته، بمحاربة المدارس الإسلامية وتشجيع مدارسه وثقافته.

وبالرغم مما بذله من مجهودات جبارة، واستعمال كل الوسائل المتاحة بين يديه، للوصول إلى أهدافه، فإنه لم يفلح، لان العقيدة الإسلامية متأصلة في النفوس تجري في المسلم مجرى الدم في العروق.

ولا يمكن أن ننفي أنه لم يفلح في محاولاته، بل بالعكس لقد أفلحت سياسته فلاحا جزئيا في الجيل الذي عاصر الفترة الاستعمارية، والذي تثقف في مدارسه وجامعاته، إلا أنه بالرغم من أن هذا الجيل قد تأثر بثقافة المستعمر، لكنه لم يستطع أن ينال منه في عقيدته.

المشكلة اليوم هي: أن الشعوب الإسلامية تبحث عن هويتها وتعمل جادة للرجوع إلى أصول عقيدتها الإسلامية، الداعية إلى التسامح والتعايش والتعارف والمعاملة الحسنة، عن طريق العلم والتعلم وأعمال الفكر والعقل مثل ما فعل أسلافهم الأقدمون.

إلا أن هناك سوء فهم في الوسائل والطرق الموصلة إلى الرجوع إلى الطريق المستقيم، وإلى العقيدة الإسلامية الصحيحة السمحة.

وبالرجوع إلى تاريخ أوروبا الحديث، نرى المشاكل التي عانتها أوروبا والحروب التي توالت عليها من أجل الرجوع إلى أصالتها وقيمتها، ولا أدل على ذلك الحروب التي خاضتها ايطاليا وألمانيا لإعادة وحدتهما.

وكم دفعت هذه الدول من ثمن غال، وكم بذلت من تضحيات جسيمة من أجل استكمال حريتها وتحررها من نير الديكتاتورية والحكم الفردي والاحتلال الأجنبي.

إن المركز الإسلامي الثقافي لايطاليا يشعر بجسامة المهمة الملقاة على عاتقه، من أجل جمع الشمل، وتوحيد الكلمة، وترشيد الحوار بين الديانات السماوية، وتقديم الإسلام في صورته الحقيقة الناصعة، حتى يصبح المسلم فاهما ومتفهما لسماحة الإسلام وعدله، وأنه دين حضاري، لا مجال فيه للغو، ولا مكان فيه للتعصب، ولا للتطرف، وأنه دين الإنسانية جمعاء، يعترف بحقوق الإنسان الأساسية منذ خمسة عشر قرنا، وأنه دين المساواة، ودين المحبة، ودين العلاقات الإنسانية، القائمة على الأخوة والتعارف وحسن الجوار.

إن مساهمة المركز الإسلامي في هذا المجال ستكون مساهمة فعالة عن طريق تنظيم ندوات ولقاءات ومحاضرات بقاعة المؤتمرات للمركز، كما سنكثف استغلالنا للمسجد استغلالا كاملا، لتعميق جذور مبادئ الإسلام في النفوس، واضعين من أجل ذلك كامل طاقاتنا وإمكاناتنا المتاحة من أجل الوصول إلى الهدف المنشود، وهو التعريف بحقيقة الإسلام الناصعة، وأهدافه النبيلة بكونه دين عالمي، شامل لجميع العبادات والمعاملات والأخلاق الحميدة، التي تؤدي إلى صلاح البشرية جمعاء، انطلاقا من قوله تعالى: "... وأرسلناك للناس كافة ..." وقوله تعالى: "... وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" صدق الله العظيم.


روما في 07 المحرم الحرام 1416 هجرية
الموافق 05 يونيو 1995 ميلادية