محدث حافظ، وأحد رواد النهضة الحديثية والفكرية في مغرب القرن العشرين، ورجل من رجال التصوف البارزين، يعرف "بالمكتبة المتنقلة". ولد بفاس في جمادى الثانية عام 1302/1883، وأخذ عن كبار علمائها ومن كان يفد على الزاوية الكتانية الكبرى من أعلام المشرق وإفريقيا ورجالاتها السياسيين. وحصل له اغتباط وإقبال على العلوم الحديثية وأدواتها، من اصطلاح وأصول، وفقه وتصوف، وتاريخ بأنواعه، وجرح وتعديل وأنساب، فجعلها عش الغرام، حتى بها عرف واشتهر. واستكتب الكتب الغريبة النادرة من الخزائن المغربية وغيرها، وقيد وضبط، وحبب الله إليه لقاء الشيوخ والمعمرين ؛ فكان لهم عليه إقبال، واستكثر من الرواية واستجازه الرحالين والمسندين، وكاتب أهل الآفاق البعيدة ؛ فحصل على أمر عظيم في هذا الباب بحيث استجاز أكثر من خمسمائة شيخ في المشرق والغرب، وانفرد بعلو الإسناد وعلومه في وقته، وكتب في سبيل ذلك كتابه "فهرس الفهارس والأثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات". وعين بظهير ملكي عام 1320 مع ثلة علماء الطبقة الأولى الذين يقرؤون الحديث بالضريح الإدريسي صبيحة كل يوم، وهو لما يتجاوز عشرين عاما من عمره. وترقى إلى الرتبة العلمية الأولى من رتب علماء القرويين عام 1325/1907، وهي أعلى الرتب العلمية بالقرويين. كما أسس مكتبة علمية كبرى، فتحها لعموم الباحثين والدارسين، اهتبل بها علماء المغرب والمشرق، وكتبت عنها مقالات، حوت نفائس الكتب والآثار والنقود، والدوريات والمجلات والوثائق، منها نهل جل من بحث في التاريخ المغربي، والفقه الإسلامي والتصوف في عصره. حج مرتين ؛ أولهما : عام 1323، وزار مصر والحجاز والشام، ولقي إقبالا منقطع النظير من حكام وعلماء ووجهاء تلك البلاد التي زارها، جعلهم يصفونه بأعلى الأوصاف، وعاد إلى المغرب محملا بعلم المشرق مادة وكتبا وإجازات. ثم حج مرة ثانية في حدود عام 1351، وزار أثناء هذه الرحلة مختلف دول أوروبا التي اجتمع فيها بأمير البيان شكيب أرسلان، وأعجب كل منهما بالآخر، ثم زار مصر والحجاز وفلسطين، ولبنان وسوريا، وزار مختلف المرافق والمعاهد العلمية والتاريخية، وافتخروا باللقاء به، والاستفادة من علومه. وما ترك التدريس قط، لا في الزاوية الكتانية بفاس، ولا في جامع القرويين الأعظم، ولا في جميع خرجاته الإرشادية التي كان يقوم بها إلى مختلف مدن المغرب، والجزائر، وتونس والمشرق، ومختلف البلاد التي زارها بأوربا. وفي سبيل نشاطه العلمي شارك في عشرات الندوات والمنتديات والمؤتمرات العلمية في المشرق والمغرب وأوروبا، وكان عضوا فعالا في مجمع اللغة العربية بدمشق، وقدم إلى مؤتمر المستشرقين الذي انعقد في معهد الدراسات العليا بالرباط عام 1346 رسالة في "إثبات التدوين لأهل القرن الأول الهجري من الصحابة والتابعين". عرف الشيخ عبد الحي الكتاني بنشاطه السياسي الدؤوب بجانب نشاطه العلمي والمعرفي والصوفي، بحيث سخر معارفه للسياسة، وسياسته للمعارف. غير أن السابر للخط السياسي للشيخ عبد الحي الكتاني يجده دائرا على نفس مبادئه المحافظة التي نشأ وترعرع فيها. فقد شارك شقيقه الشيخ أبا الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني في جميع نشاطاته الإصلاحية كالدعوة إلى الإصلاح الإداري بالمغرب، وإحداث الدستور والمجالس النيابية، واستقبال رواد الفكر الحر الذين فروا من جور الدولة العثمانية إلى المغرب، والدعاية لهم، والكتابة في مجلاتهم، وفتح الزوايا الكتانية لدروسهم. وأثناء البيعة الحفيظية عام (1325/1907) كان أحد أهم العوامل لإنجاحها ؛ فقد جمع العلماء بأمر من أخيه، من أجل بيعة السلطان المولى عبد الحفيظ بن الحسن، ووجه الرسائل إلى مختلف القبائل المغربية من أجل ضمان البيعة، بل ذهب بنفسه إلى مراكش من أجل تأمين الطريق للسلطان المولى عبد الحفيظ إلى فاس، والتقى بمحلته بمشرع الشعير، وكان أكبر رفقائه. وألف في سبيل ذلك كتابه: "مفاكهة ذي النبل والإجادة حضرة مدير جريدة السعادة" في إطار الحملة الإعلامية والفكرية التي كانت تقوم بها الطريقة الكتانية وروادها ضد الحملة الإعلامية الاستعمارية ممثلة في جريدة "السعادة"، وشرح في هذه الرسالة – التي طبعت مرارا وترجمت لعدة لغات – أفكاره وأسباب القيام بالدعوة الحفيظية، وفلسف فيها مفهوم البيعة وإمارة المؤمنين. غير أنه ابتلى فيمن ابتلي في محنة شقيقه الشيخ أبي الفيض واعتقل بسجن أبي الخصيصات بفاس عدة أشهر، لقي أثناءها عكس ما كان يفترض أن يلقاه نتيجة نشاطه الوطني والإسلامي المخلص؛ فأيقن أن البلاد تحتاج إلى إصلاح ديني واجتماعي وأخلاقي وحضاري، لا إلى إصلاح عسكري. وأثناء الحماية الفرنسية (1912/1956) حافظ الشيخ عبد الحي الكتاني على علاقات وطيدة مع سلطات الحماية، فحصل بسبب ذلك على نفوذ كبير استخدمه في كافة نشاطاته. وأسس في هذا المضمار مؤتمر الطرق الصوفية، الذي كان يروم عن طريقه إحداث كتلة من الطرق الصوفية على غرار مجمع الطرق الصوفية بمصر، تقوم بالمحافظة على الإسلام واللغة العربية والمبادئ الدينية في مختلف مناطق المغرب والجزائر وتونس. كما كانت له حملات ضد ما يعرف بإصلاح جامعة القرويين وتغيير نظامها. وعند فرض الإصلاح على الجامعة عام (1350/1930) كان أول المنسحبين من التدريس، واكتفى بدروسه غير النظامية. كما قاد عام 1345/1927 وما بعدها الحملة التي قام بها علماء المغرب ضد البدع والمنكرات التي تفشت في المجتمع، وأقام دروسا ومنتديات في هذا الإطار، وألف كتابه "تبليغ الأمانة في مضار الإسراف والتبرج والكهانة". وعندما انحلت دولة الخلافة في المشرق عام 1925، واعتلت أصوات العلمانيين مدعية بأن الإسلام لا يصلح نظام حكم في كل زمان ومكان؛ ألف كتابه "التراتيب الإدارية في الحكومة النبوية" الذي أثبت من خلاله أن كل صغيرة وكبيرة في النظام الإداري كان لها أصل من حكومة النبي صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الأربعة من بعده. وعد هذا الكتاب صيحة في وقته. وكان الشيخ عبد الحي الكتاني يحظى باحترام وتقدير كبيرين من ملوك المغرب، المولى عبد العزيز والمولى عبد الحفيظ والمولى يوسف، والملك محمد الخامس، حيث أنعموا عليه بظهائر التوقير والاحترام، وكان يحضر في كافة المناسبات الوطنية والخاصة. غير أنه نظرا لخطه المحافظ، وتشبثه بالطرقية والتصوف في زمن طغت فيه الأفكار السلفية والتقدمية، فقد كثر أعداؤه. خاصة من طرف الحركة الوطنية التي عارضت مواقفه في كافة المحافل... وعند تنحية الاستعمار الفرنسي الملك محمد الخامس عن عرش أسلافه عام (1372/1953)، وتنصيبهم ابن عمه محمد بن عرفة ملكا على المغرب، كان الشيخ عبد الحي الكتاني واحدا ممن تزعموا مبايعة ابن عرفة – مثل علماء آخرين، فكانت بيعته القميص الذي علق به أعداؤه شتى التهم والعظائم. ثم ما إن عاد الملك محمد الخامس إلى المغرب منتصرا مظفرا عام (1375/1955)، حتى اضطر الشيخ عبد الحي الكتاني إلى الهجرة لفرنسا مستوطنا مدينة نيس التي توفي فيها يوم الجمعة 12 رجب الفرد عام 1382. ترك الشيخ عبد الحي الكتاني ما يربو على خمسمائة مؤلفا أهمها : مفاكهة ذي النبل والإجادة حضرة مدير السعادة، منية السائل، اختصار الشمائل، وسيلة الملهوف إلى جده الرحيم العطوف، ما علق بالبال أيام الاعتقال، المعجم الأكبر، تخريج ثلاثية البخاري، الرحلة الحجازية، نقذ فهرس الشيخ فالح المدني، أسانيد صحيح مسلم، أسانيد حصر الشارد، نصيحة كتبها للسلطان المولى عبد الحفيظ، النور الساري على صحيح البخاري، الرحمة المرسلة في شأن حديث البسملة، مرقاة التخصيص في الكمالات المحمدية، تاريخ جامع القرويين، التراتيب الإدارية، التنويه والإشادة بنسخة ورواية ابن سعادة من صحيح البخاري، فهرس الفهارس والإثبات ومعجم المعاجم والمشيخات والمسلسلات، رسالة في علاقة ملوك المغرب بشيوخ الزوايا، وما كانوا يندبونهم إليه من خدمة الصالح العام.
عن معلمة المغرب بتصرف" - المجلد 20"