إن دور الزوايا في تاريخنا المشرق دور كبير في الحفاظ على اللغة العربية والدين الإسلامي في كثير من البقاع المنقطعة أحيانا عن أسباب الحضارة والمدنية، في أقصى الأرياف والبوادي.
إن هذا الدور الريادي الذي يتفق عليه اليوم مع دعوات التنمية البشرية والتكافل الاجتماعي والنجدة وتقديم العون، ما كان لتؤثر فيه بعض اللحظات الانحراف التي عرفتها بعض الدعوات من زوايا اهتمت بالكرامات ووقف أدعيائها مع بعض مظاهر شرخ الرؤوس وأكل الحشرات وما إلى ذلك مما يعد من ممارسات نظر إليها الناس نظرة استنكار في زمنهم لعدم فهمهم مغازي تلك الظواهر، أو لبعدها عن مقاصد الدين الحنيف الذي هو من الوضوح العقلي والنقاء الروحي، بحيث لا يجوز الاهتمام فيه ببعض المظاهر المذكورة أو المشابهة لما ذكرناه.
لأن حدود الكرامات التي تجري على أيدي بعض خاصة الناس أمر لا يهم كثيرا إذا ما نظرنا إلى الأدوار الكبيرة التي تقوم بها العشرات من الزوايا ذات السند الصوفي السني المعتمدة على نشر فكر تربوي محمدي معتدل، قوامه المحبة ونشر الفضيلة وتعميم الهداية للإنسانية جمعاء.
إن مثل هذا الخطاب الإنساني المعتمد على نشر المحبة هو الحل الأمثل اليوم لسائر ما يتخبط فيه الناس من ألوان الاضطراب النفسي والعنف والعنف المضاد في حدود إقليمية أو عالمية في جغرافية الصراع الكوني المعاصر.
إن رسالة الزاوية أو المذهب السلوكي القائم على نشر مبادئ التربية الأخلاقية وإشاعة روح التواصل بين الناس باختلاف مشاربهم، هي رسالة عالمية، ومن شأنها أن تتيح للإسلام اليوم أن يكون خيارا حضاريا إنسانيا يقدم للإنسانية أنجع الحلول لضبط النفس ونشر المحبة وترسيم قواعد احترام حقوق الإنسان وإشاعة الديمقراطية باعتبارها رهينة الفكر الحر، ونشر أنواع السلوكات التربوية التي تتيح للعقل أن يختار ويقدر ويسلك الوجهة التي يشاء.
لقد عد المغرب بلد الأولياء بامتياز، ذلك أن مساحة البلاد تشمل أعدادا هائلة من الأضرحة المنتشرة في جميع المناطق من أقصى جبال الريف في الشمال إلى أقصى الجنوب في الصحراء المغربية.
وإذا كان هذا الواقع تاريخيا لا يرجع إلى فترات حديثة وإنما هو متوغل في تاريخ المغرب، بدأ بمرحلة الشيوخ الكبار في العهد الموحدي، فإن هذا المدد ما زال متصلا إلى اليوم في كثير من المناطق. إذ لا تجد جبلا أو هضبة أو قرية أو مدينة إلا وترى فيها ضريحا أو مزارا يتوافد عليه الناس طلبا للبركة أو أحد معاني المحبة الصوفية والتربية الأخلاقية.
وظلت هذه الثقافة محط تقدير لدى المجتمعات بحيث ينتظم الموسم حول ضريح الولي فتنتعش المدينة أو القرية اقتصاديا بتبادل المصالح والحاجات، وكأننا بالولي ميتا لا يفتر عن أداء دوره رمزيا وهو تقريب الناس حول معنى المحبة الصوفية التي لا زمان لها ولا مكان إلا زمن محبة الله والرسول صلى الله عليه وسلم ومكان قلوب العاشقين من المريدين الصادقين.
ما يزال هذا الدور قائما اليوم، فلا نكاد نسمع أن موسما صوفيا ثقافيا واقتصاديا انتهى حتى يأتي خبر بأن موسما صوفيا آخر سيبدأ. وهكذا تتوالى لحظات جمع الشمل وتبادل المصالح وتحقيق المحبة وتربية النفوس عل البذل والعطاء والتكافل عبر أيام السنة من منطقة إلى منطقة في أجواء احتفالية لا تخلوا من رمزية وحمولة ثقافية ودينية كبيرة.
ولعل رموز التصوف في البلاد المغربية منذ التاريخ القديم جديرة بالتقدير نظرا لسلوكها السني المعتدل وأدوارها في الحفاظ على توازنات اجتماعية واقتصادية كبيرة في لحظات عصيبة في تاريخ المغرب، ومن أبرز الزوايا في تاريخنا العتيد، الزاوية التيجانية، والزاوية القادرية، والزاوية الناصرية والزاوية الدرقاوية والزاوية الكتانية وزوايا أخرى كثيرة يعز علينا حصرها في هذا المقام، مثل الزاوية الوزانية والناصرية والعيساوية والحمدوشية والمعينية وغيرها كثير...
ولقد ارتبط بهذه الزوايا كثير من الكتابات التاريخية المرتبطة بشخوص الأولياء ومريديهم ومن يدور في فلكهم من الطلبة، وتسمى هذه الكتابة العلمية بالكتابة المنقبية، أو كتب المناقب.
وتتعرض هذه الكتب في أغلبها إلى حياة الولي، مع التركيز على فترات مجاهدته وتذكر بعض كراماته غير آبهة بفترات سابقة في حياته، مثل فترات الصغر والشباب نظرا لكون هذه الكتابة المنقبية تركز اهتمامها على مناقب الولي وخصاله التي استحق بها التقدير والدخول في زمرة الصلحاء من القوم.
وكانت الكتابة المنقبية تتعرض للزوايا من حيث هيكلتها الداخلية وممارستها العلمية والروحية، كالاتفاق على بعض المبادئ العامة كتعليم القرآن وعلوم الشريعة، ثم الاجتماع المنظم للذكر وإقامة الأوراد في اليوم والليلة على طريقة من الطرق وفق نظام لا يختل.
وكانت الكتابة المنقبية تعرف أحيانا بالأدوار الاجتماعية للزوايا أثناء فترات الجهاد كالمقاومة والوقوف في وجه العدو الغاشم، وتذكر مكارم الولي ورمزية الحب الذي يحمله له أهل بلده في قلوبهم.
وكان التركيز في كل الزوايا من غير استثناء على إقامة الأذكار المكونة من آي من القرآن الكريم مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفق إحدى الصيغ التي ضمنها سيدي عبد الرحمن الجزولي كتابه المشهور، (دلائل الخيرات)، وبعض الصلوات التي فتقتها روحانية بعض الأولياء، كالصلاة المشيشية للقطب عبد السلام بن مشيش وغيرها.
إذا كانت الكتابة المنقبية تروم ذكر مناقب الولي وصفاته وكراماته، فإن كثيرا مما ورد في هذه الكتابات تعرض لبعض المغالاة والزيادة الناشئ عن اتساع الخيال الشعبي لكثير من الخوارق والأمور التي ألصقها الناس أحيانا ببعض هؤلاء الصلحاء مما لم يرد له ذكر موثق في كتب المناقب، وإنما كان الناس يتواترون الرواية لبعض تخيلاتهم فلا يكادون يخرجون عن ضوابط الشريعة في بعض مروياتهم فيَتهمون ويُتهَمون.
ولذلك فنحن في حاجة إلى إعمال النظر والتمحيص لتنقية السلوكات الصوفية السنية المعتدلة من سائر الشوائب التي يلحقها بها الخيال الشعبي أو المغالون أو المغرضون.
الدكتور محمد أديوان