يرى أ.د عزمي طه السيد، عميد البحث العلمي فيجامعة آل البيت، أن التصوف بإمكانه أن يرشد المجتمع ويكونبمثابة العامل الواقي أو المضاد لما يمكن تسميته بالعنف، الذي نتج بسبب رفض الآخروإقصاء العقل وتقليص هامش التعدد في إطار الأمة الواحدة.

يرى طه السيد أن التصوف الحقيقي يعبر عن جوهر الإسلام النقي، وأن ثمة ما أدخل على الفكر الصوفي مما جعل البعض يرون فيه سبب تأخر، وفي المقابل يدعو إلى نشر الفكر الصوفي النقي للمساهمة في إنقاذ المجتمع من نزعاته المادية وغلوه وتطرفه الناتج إما عن الابتعاد عن الدين تارة أو بسبب التفسير والتأويل غير الصحيح لنصوص الشرع، وهو ما أنتج فكرة التطرف.

 ويرى عزمي طه أن الحركة الصوفية كانت تمارس جانب الدعوة ونأت عن المواجهة والمقاومة إلا في حالات الدفاع عن الأوطان من خلال الرُبط والزوايا، كما أنه يقر بأن معارفنا عن التصوف أتت بداية من دوائر الاستشراق وهو لا يرفض العملي منها، لكنه يدعو لدراسة التصوف من الداخل وعبر أدوات معرفية إسلامية.

(وبناء عليه) إن على الغرب تغيير سلوكه في التعايش مع الآخر قبل أن يتجرأ ـ الغرب ـ على ترشيح التصوف كممثل للإسلام المستقبلي، ويرى أن التصوف بإمكانه أن يرشد المجتمع ويكون بمثابة العامل الواقي أو المضاد لما يمكن تسميته بالعنف، الذي نتج بسبب رفض الآخر وإقصاء العقل وتقليص هامش التعدد في إطار الأمة الواحدة (...).

التصوف وحقيقته

(...) إن التصوف الإسلامي هو سلوك إرادي ظاهري وقلبي متواصل مستند إلى شريعة الإسلام، دعامته الفضائل الخلفية الإسلامية، له دوافع وحوافز ترجع إلى استعداد خاص يتفاوت لدى الأفراد، وإلى عقيدة الإسلام، وإلى تجربة شخصية مرتبطة بظروف بيئية. وهدف هذا السلوك هو التقرب من الله، وغايته القصوى الوصول إلى الحضرة الإلهية والاتصال بها، الأمر الذي يترتب عليه حدوث الفناء واكتساب العرفان والتحقق بالطمأنينة والسعادة القصوى.

إذن، جوهر التصوف تقرب إلى الله سبحانه وتعالى وهذا التقرب يتم بالقيام بالفرائض كلها ثم بالنوافل، وهذه لا تشمل العبادات المعروفة من صلاة وصيام وزكاة وحج فحسب، وإنما تتعدى ذلك إلى فعل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأفعال والأقوال الظاهرة والباطنة (...).

علما بأن كل فعل أو سلوك يحبه الله ورسوله هو من التصوف وداخل فيه، ومطلوب فعله من المسلم ومن الصوفي على حدّ سواء، أما الأمور التي لا يحبها الله ورسوله فهي ما نهي عن فعله أو الاقتراب منه، وقد دخل إلى التصوف الإسلامي عبر تاريخه الطويل العديد من الأمور التي لا أصل لها في الإسلام، أو هي مخالفة لمقاصد الإسلام، ومن ذلك فهم التوكل على الله على أنه تواكل، أي ترك الأخذ بالأسباب، أو ترك التعليم طمعاً في الوصول إلى المعرفة الإلهية، فساهم ذلك في نشر الجهل بين الناس، وكثرة ادعاء الكرامات، ووصل الأمر ببعض مدعي التصوف إلى القول برفع التكاليف بدعوى الوصول إلى الله ومعرفة الحقائق، أو دعوى محبة الله والوصول إلى مقام الرضا. (...)

وتستمد مشروعية التصوف الإسلامي من الإسلام، من الكتاب والسنة، وهذا ما حرص الصوفية قديماً وحديثاً على إبرازه وإثباته، فبينوا أن علومهم مأخوذة من الكتاب والسنة، وحرروا في ذلك كتباً وفصولاً عديدة.

ولا ننكر وجود جدل حول مشروعية التجربة الصوفية في الماضي وفي الحاضر، ونحن نرى أن جانباً من هذا الجدل يرجع إلى أمرين، الأول: سوء فهم لحقيقة التصوف من قبل بعض الصوفية أنفسهم ومن الآخرين أيضاً.

والثاني: العديد من الممارسات التي دخلت إلى حلقات الصوفية وسلوكهم مما لا أصل في الدين، وما افترضته في سؤالك من وجود قطيعة بين المفكر المسلم الحديث والمعاصر وبين التراث الصوفي يمكن إرجاعه إلى سوء فهم حقيقة التصوف، والجهل بحقيقة التصوف يفتح الباب أمام معاداته، فالإنسان عدو ما يجهل ـ كما قيل ـ وبمناسبة ذكر القطيعة مع التراث، نود أن نؤكد أن المفكر المسلم المعاصر لا ينبغي أن يتبنى موقف القطيعة مع تراثه بل عليه أن يجعل فكره امتداداً للتراث في صورة من الصور: التجديد أو التطوير أو النقد البناء الذي يبقي الإيجابي وينفي السلبي، أو إعادة صياغة ما يمكن أن يستثمر من هذا التراث في صورة ملائمة للعصر أو غير ذلك من الصور(...).         

                                   التصوف والتطرف والعلمنة

 قد فشلت الكثير من الخطابات الثقافية والمعرفية والأيديولوجية، وهذا يستدعي من الباحث أن ينظر في أسباب هذا الفشل، وقد يرجع هذا الفشل إلى أسباب في الخطاب نفسه حين لا يكون ملامساً لضمير الأمة وحاجاتها ومشكلاتها، ويركز على مصالح فئة خاصة أو مجموعة بعينها، وحين لا يكون مؤسساً على عقيدة الأمة أو يأتي مخالفاً أو مضاداًَ لها، كما يرجع الفشل إلى سبب آخر هام، وهو أن أي خطاب، لكي ينجح لا بدّ أن تسانده قوة السلطة والسلطان، وقديماً قيل: "وما نفع حق لم تؤيده قوة"، فالهوة أو الفجوة الواسعة بين الخطاب والسلطة يفشل الخطاب، والتوافق والتعاون والدعم من السلطة لخطاب ما يكون سبباً في نجاحه، كما لا يفوتني هنا التنويه إلى العوامل الخارجية التي لها القدرة في هذا العصر، بسبب كثرة أدواتها وتنوعها على إفشال أي خطاب ليس له جذور ولا تدعمه السلطة.

وعليه…، فإن التصوف وحده والخطاب الصوفي وحده لا يمكن أن يحل محل الخطابات الأخرى، ـ وهذا مهم أن يلتفت إليه ـ أن الخطاب الصوفي المبني على فهم سليم لحقيقة التصوف، يساهم مساهمة كبيرة في أمرين: الأول، إنقاذ الموقف العام للأمة، بما ينطوي عليه من تربية أخلاقية عالية وتزكية للنفوس فيحل بذلك الأزمة الأخلاقية في المجتمع، وهذا أمر مهم، فضلاً عن روح الإيثار التي يتربى عليها الصوفية نحو الآخرين مما يسهل تنظيم الجهود لإزالة الضرر القائم، والأمر الثاني أن ما نشهده اليوم من سلوك متطرف ومغالاة في تكفير الناس واستباحة لدمائهم، دون أدنى وجه حق من الدين أو العرف أو الخلق، هذه المواقف يستطيع الخطاب الصوفي أن يبدلها وأن يغيرها وأن يعالجها بحيث يعود بالناس إلى روح التسامح وإلى روح التقارب، ذلك أن من إيجابيات التصوف عبر تاريخه أنه كان سبباً في تقليل الخلافات والخصومات بين الفئات والفرق والأفراد، فغاية الصوفي تتجاوز ذلك كله، وتتجه إلى الله سبحانه وتعالى وتركز على التقرب منه.(...)

إن التصوف الإسلامي الحق هو تصوف يستند إلى عقيدة الإسلام، والسلوك فيه سلوك إسلامي، وإذا وجد سلوك لا أصل له في الإسلام وشريعته، فهو عند الصوفية الحقيقيين مرفوض، ونحن نركز على مصطلح "صوفية حقيقية"، لأن التصوف - كما قال أبو حامد الغزالي - "باب المدعي فيه كثير"، من هنا كان التصوف مضاداً للأفكار العلمانية التي لا أساس لها في الدين والشريعة أو تضاد الدين وتعارضه، نعم، إن التصوف يمكن أن ينجح في دحر أفكار العلمنة بسبب قوة ارتباطه بالدين وبالتوجه إلى الله، والتصوف مليء بالروحانيات التي مظهرها الصحيح العبادة بالمعنى العام والواسع وفيه إيمان بالغيبيات، على أن من سلبيات التصوف أن يعتقد الصوفي بغيبيات غير تلك التي جاءت في الوحي الصادق: الكتاب والسنة الصحيحة المؤكدة، وهذا ما نحذر منه: أن نخترع غيبيات لا أساس لها في الوحي الصادق، فالله وحده هو مصدر العلم بالغيبيات، ويبقى في النهاية أن التصوف يحدّ من المادية التي نجدها في العلمانية ويسعى لتحقيق التوازن بين المادي والروحي في حياة الناس. (...)

والصوفي الحقيقي هو الذي يتمتع بقدر كبير من الأخلاق السامية المتسمة بالاعتدال والتسامح مع الآخر، بل والتعاون معه من أجل الخير المشترك في ضوء روح الإسلام السمحة المتسمة بالاعتدال واحترام الآخر الذي لا يعتدي على المسلمين ولا يخرجهم من ديارهم، بل يطلب أن نبرّ هذا الآخر ونحسن إليه، وهو المعنى الوارد في قوله تعالى: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" (الممتحنة:8 ). أما مع المسلمين فيما بينهم، فهم أخوة، رحماء بينهم، يتجاوزون عن الإساءات ويصفحون ولا تشغلهم الخلافات والنزاعات، فهم متوجهون في سلوكهم إلى الله، الأمر الذي يعني أن عدم تركيز النظر على الخلافات والمنازعات ومحاولة تجاوزها.(...)

 ومما لا شك فيه، فإن التصوف الإسلامي يجسد معاني في التعامل مع الآخر في الداخل وفي الخارج، وإذا كانت التجربة الصوفية صافية خالية من أية عناصر خارجة عن الإسلام، فإنها ستكون خير ممثل للإسلام المطبق في صورته السمحة الوسطية المعتدلة، وما أظن إلا أن الجميع يطمحون إلى أن يكون الإسلام على هذه الصورة، فها هم المسلمون يعانون من بعض الذين يمارسون التطرف والغلو باسم الإسلام، فنحن نتوقع لمستقبل الإسلام كل خير، وأن يمارس بالصورة التي تبرز خصائصه الإنسانية المعتدلة، والتجربة الصوفية والتصوف في مقدوره أن يساهم في هذا إلى درجة كبيرة.(...)

(وبناء على ذلك) يمكن أن يساهم التصوف الإسلامي في ترسيخ الهوية الثقافية للأمة، وأن يدعم قضية الإيمان والعمل الصالح، وأن يقلل من الخلافات بين فرق المسلمين وأحزابهم، وأن يساهم ـ بما فيه من زهد معتدل ـ إلى تحسين الوضع الاقتصادي بالتقليل من الاستهلاك والتركيز على الإنتاج النافع، وربما كان أكبر جانب إيجابي يساهم في عملية الإصلاح هو الجانب الأخلاقي والتربوي أو ما يمكن أن يسمى اليوم بالفساد وهو أمر خطير تشكو منه مجتمعاتنا، ذلك أن أحد وسائل الصوفية ومدار سلوكهم ومجاهداتهم هو ما يسمى في اصطلاح الصوفية التخلّي والتحلّي، أي التخلّي عن الرذائل والتحلّي بالفضائل، وما أظن أحداً يشك في أن إصلاح الأخلاق والفساد الأخلاقي هو من أهم جوانب الإصلاح في المجتمعات إن لم يكن أهمها.
(عن جريدة الغد بتصرف)