الزكاة في القرآن، مداخلة لشيخ الطريقة الكتانية الأستاذ عبد اللطيف الشريف الكتاني- بصفته أمينا عاما للمركز الإسلامي الثقافي لإيطاليا حينه - في الندوة التي أقيمت حول مفهوم الصدقة في الإنجيل، بمدينة باليرمو الإيطالية في 22-11-1995.


الحمد لله،

السيد الرئيس، أصحاب السعادة،

أيها السادة والسيدات والسادة :


يطيب لي في مستهل هذا اللقاء، أن أعبر عن السعادة التي تغمرني، وأنا أشارك إلى نخبة من كبار رجال الدين، وأصحاب الرأي، في هذه الندوة، مغتنما هذه الفرصة، لأتقدم بالشكر الجزيل إلى صاحب النيافة الكاردينال كاميللو رويني، على تفضله بدعوتنا للمشاركة في هذه الندوة الهادفة إلى التعريف بمفهوم الصدقة في الإنجليل، والتكافل الاجتماعي بمعناه الواسع، الذي يمكن أن نصفه بأنه العمود الفقري للأخوة التي نادت بها الأديان السماوية، والعنصر الأساسي الذي ينظم حياة الأمم، ويضبط العلاقات بين مختلف شرائح المجتمعات، بل هو الأساس في استمرارية الأمة و بقائها عزيزة الجانب، متمتعة بهيبتها قائمة بواجباتها محترمة من رعيتها.

إن الإسلام، أيها المؤمنون، له ما يقوله في هذا المجال. فهو قبل كل شيء دين الحياة، والحياة أساسها العدل والتكافل والتراحم والتسامح والتعاون والبذل والعطاء، وتسخير المال لنفع العباد.

يقول الله تعالى في القرآن الكريم، في سورة النور الآية رقم 33: "وآتوهم من مال الله الذي آتاكم"، فإذا امتثل المرء لأمر خالقه يصير آمنا على نفسه وماله وشرفه، وآمنا على عقيدته ودينه، وتكون النتيجة الحتمية أن يصبح المجتمع راسخ البنيان، قوي الأركان، بدليل قوله تعالى في سورة الشورى الآية رقم 38: "والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون".

وقال سيدنا محمد صلى الله تعلى عليه وسلم: " إن الله فرض على الأغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا، إلا بما يصنع أغنياؤهم".

وقد جعل الله الصدقة والرحمة من الأسباب الأساسية للتمكين في الأرض، فقال تعالى في سورة الحج 22 الآية 31 "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة".

وبما أن الله عز وجل قد يمكن في الأرض للمزكين والمتصدقين والمحسنين، فعليهم أن يكونوا شاكرين لأنعم الله بمديد العون لخلقه بالمال وبالنصح لكل من وقف على بابهم من السائلين، امتثالا لقوله تعالى في سورة التوبة 90 الآية 71 "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة".

من هذا نرى أيها المؤمنون أن الصدقة والتكافل والتضامن في الإسلام ليس أمرا تطوعيا بل هو فريضة من الله تعالى، والرسول سيدنا محمد قد وضع أسسه الثابتة ورفع أعمدته الشامخة، فقال صلى الله عليه وسلم : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".

ولأهمية الصدقة والتكافل في الإسلام، فقد حدد القرآن بنفسه أصنافها الثمانية، فقال جل شأنه في سورة التوبة 90 الآية رقم 60 : "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله".

ولنتأمل تسمية الركن الثالث من أركان الإسلام بالزكاة، ولم تسم عطاء، ذلك أن معنى الزكاة: الطهارة، أي الطهارة من الجشع والظلم والحقد ومن ارتكاب الجرائم، كالسرقة والرشوة.

وسميت كذلك بالصدقة لأنها دليل على صدق الإيمان وأن المال يجب أن يسخر لنفع العباد. قال تعالى في سورة التوبة 9 الآية رقم 103 "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها". وقال تعالى في سورة المعارج 70 الآية رقم 70 "وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير".

وقد ورد عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قوله: "من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة. ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة".

هذه أيها الإخوة المؤمنون تعاليم الإسلام، كما سمعتم وستلاحظون كلها رحمة وشفقة وتعاون وتعاطف وتضامن وتكافل، إذ المحسن في نظر الإسلام هو صاحب الوجدان النبيل الذي يبعث على الارتياح والسرور كي يستريح الإنسان مع نفسه ويسر بوجود غيره معه.

والمؤمن الصادق، أيها الإخوة، هو الذي يشعر بإنسانيته، ويدرك مستواه، ثم يرى هذا المستوى في أن يكون ذا إحسان ووجدان وعاطفة.

فالرحمة هي العملة النادرة، أيها المؤمنون، التي يجب أن يتداولها العقلاء من الناس، على أن تترجم هذه العملية إلى عمل محسوس، أو ما شئتم من ألوان التكافل الاجتماعي الذي يقوم عليه العمران والرقي والازدهار.

ومن هذا المنطق الإسلامي ومن بقية الديانات السماوية كانت الرحمة قيمة أخلاقية عليا، تدل على صدق النية والإخلاص وسلامة الضمير وقوة الوجدان النبيل والرأفة والرحمة بجميع مخلوقات الله.

نشكركم مرة أخرى، وندعو الله أن يكلل أعمالنا بالنجاح، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه ولما فيه خير البلاد والعباد، وأن يسفر هذا اللقاء على توصيات هامة، ونتائج سارة تعم بركتها الأجيال الحاضرة والمستقبلة.